تكلمنا في المقال الماضي عن خطورة الموضوعات التي يتعرض لها من نسميهم بالوعاظ والدعاة، وأنها مسائل كبرى من أهم وأجل وأخطر مسائل الإيمان والحياة، مما يوجب أن يكون الواعظ من أهل العلم والفقه في الدين، خلافا لما إستقر في أذهان كثير من المسلمين اليوم بل خلافا لما يظنه كثير من الخاصة منهم!
ولذلك كان يشترط السلف في الوعاظ شروطا تشتبه كثيرًا بشروط الفقيه المجتهد!! ويحذرون بسبب دقة هذه الشروط وشدتها من توسيع دائرة الوعاظ!
بل هذا مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا يَقصُّ إلا أَميرٌ، أو مَأْمورٌ، أو مخْتَالٌ»، وفي رواية: «أو مرائي».
وقد اختلف العلماء في فهم هذا الحديث، وخلاصة القول فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّنَ لأصحابه رضوان الله عليهم أن حق الوعظ يَقْصُرُ دونه عامةُ الناس، فلا يحق لغالب الناس من طلبة العلم والمثقفين -فضلا عمن دونهم- أن يمارسوا الوعظ، وأنه إنما يختص بالوعظ قلةٌ مخصوصةٌ محدّدة، محصورون في صنفين من الناس فقط، وهما:
ـ إما أن يكون الواعظ هو الأمير الذي اجتمعت فيه شروط الإمارة: من العلم والإيمان.
ـ أو من يأمره هذا الأميرُ بالوعظ، ولن يأمر هذا الأميرُ الصالحُ العالمُ بالوعظ إلا من تحقق فيه شرطه من العلم والإيمان.
فإن لم يكن الواعظ أميرا ولا مأمورا، في زمن صلاح الأمراء وعلمهم، فلن يكون غالبا إلا واعظًا مدخولَ النية، يريد الرئاسة والتقديم، وهو غير مستحق لهذه المنزلة.
وقد تكلم العلماء عن زمن تولي الأمير غير العالم وغير الصالح، فأناطوا مَهمة إختيار الواعظ لأهل العلم والإيمان، حفاظًا على مقصد الشرع بعدم ترك هذا الباب الخطير هملا بلا ضوابط.
وفي العصر الحديث كان يجب أن تتكوّن لجانٌ من علماء شرعيين وعلماء إجتماع وتربويين وقادة للفكر ليعطوا حق الوعظ لمن توفر فيه شرطه.
وبهذا يتبيّن أن المقصود من الحديث وبكل وضوح: هو تضييق دائرة من يحق له الوعظ وأنها وظيفة ليست مشاعة لكل من حفظ وكان ذا لسانٍ قادرًا على الهَذْر والإسهاب في الكلام، بل يجب الحفاظ على خصوصيتها الضيقة جدا، ويجب الحذر ممن خالف هذه الخصوصية، فهو غالب مختال مراءٍ!!
وكل ذلك التضييق لم يأتِ -ولا شك- تجفيفًا لمنابع الدعوة ولا كرها لإنتشار الخير..كما يقال عادةً عند الكلام في هذا الموضوع! إذ المتحدث هنا هو إمام الدعوة بحق بل هو إمام الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بل إنما كان ذلك التضييق لمن يحق له الوعظ: تصفيةً لمنابع الدعوة وكرها لالتباس الشر بالخير بلا أدنى شك!!
ولا يمكن أن يُخاطَب الصحابةُ رضوان الله عليهم بهذا الخطاب الحازم الجازم، ثم يكون الخطاب لمن بعدهم من أمثالنا أقلَّ حزمًا وجزمًا، بل ما أولانا بأضعاف ذلك القدر من الحزم والتشديد.
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما صحَّ عنه يمرُّ برجلٍ يَقُصُّ -أي: يَعِظُ- فقال له علي رضي الله عنه : أعلمتَ الناسخ من المنسوخ؟ فقال الرجلُ: لا، فقال له علي: هلكتَ، وأهلكتَ.
فها هو الخليفة الراشد علي رضي الله عنه يشترط في الواعظ لا في الفقيه العلمَ العميقَ بنصوص الشرع! خاصة مع المعنى الواسع والعميق لـ النسخ عند السلف، كما سيأتي بيانه.
ولذلك كان من الخطأ الكبير والخطر الشديد التهاون في شرط علم الدعاة، أو في شرط ما يبثونه من فتاوى عامة، باسم الوعظ والدعوة.
وقد قال أبو الفرج ابن الجوزي ت 597هـ في كتاب القُصّاص والمذكّرين: فينبغي للواعظ أن يكون حافظا لحديث رسول الله، عارفا بصحيحه وسقيمه، ومسنده ومقطوعه، ومعضله، عالما بالتواريخ وسير السلف، حافظا لأخبار الزهاد، فقيها في دين الله، عالما بالعربية واللغة، فصيح اللسان، ومدار ذلك كله على تقوى الله عز وجل وأنه بقدر تقواه يقع كلامه في القلوب.
وتنبهوا لقوله رحمه الله في شروط الواعظ: فقيها في دين الله.
أين هذه الشروط من بعض مُتَسَنِّمي منزلة الفتوى، فضلا عن منزلة الوعظ التي ترخّصنا فيها غاية الترخّص، حتى أصبحنا لا نشترط لها أكثر من القدرة على الخطابة والكلام، ومن حفظٍ بلا وعي -ولا أقول: بلا فقه!
وسنذكر في مقال الأسبوع القادم بإذن الله تعالى أحد أهم الإستدلالات الخاطئة التي أسّست لشيوع هذا التساهل في شرط من يستحق منزلة الوعظ.
الكاتب: أ. د. الشريف حاتم العوني.
المصدر: صحيفة المدينة.